مقالات

في ذكرى محمود درويش:”لقد تركنا يتامى في الزمن العربي الرديء”/ إسماعيل طاهري

عندما توفي نزار قباني في 1998وضعنا أيدينا على رؤسنا لا نصدق ان يرحل هذا الهرم الشعري الذي كانت جريدة الحياة اللندنية تنشر قصائده في الصفحة الاولى..مات شاعر الحب والثورة. شاعر”متى يعلنون وفاة العرب” لكن عندما توفي محمود درويش 2007 كانت الفداحة أكبر لأنه وبلا منازع اعظم شاعر في تاريخ العربية بعد إمرؤ القيس والمتنبي وربما فاقهما شعرية ولعبا باللغة ومراوضة المعنى والمبنى في كل فج عميق.

لم تمر ثمان سنوات بعد كي ينسى هذا الشاعر الذي لازال يقض مضجع الصهيونية وأخيرا تدخل وزير الدفاع الإسرائيلي لتأنيب جنرال بث في الاذاعة العسكرية الاسرائيلية قصيدة “عابرون في كلام عابر” القصيدة التي كانت سببا في إبعاده عن فلسطين ونفيه خارجا قسريا.

محمود درويش شاعر لا يعوض ومثقف عضوي غادر منظمة التحرير بعد اتفاقيات أوسلو وكتب ديوانه العظيم” لماذا تركت الحصان وحيدا”.

الشاعر الذي يقدسه الشعراء والادباء الفلسطينيين ويخشى من الاقتراب من نصوصه أكبر النقاد. وصاح في السبعينيا صرخته المدوية “أيها النقاد إرحمونا من هذا النقد” وحينها كان النقد الشعري العربي يمجد كل ما يكتبه الفلسطينيون من أشعار.

ليس ضروريا ان نعود في هذه العجالة للحديث عن “سيرة ذاتية”لمساره فاسمه شاهد وشاهدة على الوجع الذي خلفه في قلوبنا يعد رحيله، “ما دلني احد علي أنا الدليل” كما قال يوم بنزعة إنسانية مفعمة بالدلالات وهو يواجه المرض في بلاد”الطاعون”.

والى جانب كون درويش شاعر القضية والثورة فقد كانت تجربته الشخصية مع الحب فريدة لانه عشق فتاة إسرائلية يهودية تدعى ريتا. وهو الفلسطيني الشجاع الذي يدافع عن ارضه المغتصبة بالكلمات ولم يتنكر لحبه واخفاه بين ضلوعه وفاحت به قصائده كما نجح رفاقه في قيادات منظمة التحرير في إخفائه وكان الجنون ينتابنا عندما كنا ندرس دواوينه في الساحة الطلابية عندما كنا نبحث عن ريتا والبندقية وظفائرها الندية. كما غناها ظله في الموسيقى مارسيل خليفة.

كنا نختلف كثيرا في تحديد معاني محددة لقصائده في ديوان”عاشق من فلسطين” وكذلك في دواوينه المختلفة.

محمود درويش رحل عن عالمنا وتركنا يتامى هذا الزمن العربي الرديئ ، لا نعرف كيف نكتب قصائدنا ولا كيف نرفع شعاراتنا القديمة عن “النار والغرباء”. كلما قرأنا أشعار شعراء الحداثة وما بعد الحداثة أصبنا بالدوار ولا نكاد نكمل قصيدة حتى نستتبعها بحبة أسبرين للحد من “وجع في الرأس وفي القلب” كما قال الكاتب المغربي إدريس الخوري.

لم ينجب درويش أطفالا وظل ذلك الأب الحنون لكل التجارب الشعرية من خلال المجلات التي أدارها وعلى رأسها مجلة الكرمل التي أعاد نشرها بعد عودته الى بلدته الكرمل.

لم يعد الشعر يقرأ بعد محمود درويش بذلك الألق حيث كان حضوره الى المسارح ينافس أشهر نجوم الغناء والرقص في العالم العربي.

نذكر جميعا قصيدته الشهيرة حول حصار بيروت في 1982 وتكاد خفقات قلوبنا تسارع الى حتفنا حين كان ياسر عرفات وقيادة منظمة التحرير تستعد لمغادرة بيروت في اتجاه تونس بعد صفقة وسطاء مع إسرائيل التي احتلت بيروت واشترطت مغادرة القيادة الفلسطينية للبنان لكي تخرج منها.

“بيروت تفاحة، وهذا الخندق” بهذه الكلمات كان درويش يقاوم بالحروف في زمن خفقت فيه البندقية، وتكالبت الظروف على القضية العادلة لشعب سلبت أرضه وسرقتها منه عصابة من الصهاينة من متطرفي الديانة اليهودية مدعومة من طرف الغرب تكفيرا عن محرقة الهلكوست بألمانيا.

“حاصر حصارك لا مفر

أضرب عدوك لا مفر

سقطت يدي فخذها

واضرب عدوك بها

فأنت الأن حر وحر وحر وحر”

بهذه الأشعار الجميلة ودع عرفات ورفاقه بيروت في اتجاه تونس.

وخلاصة الكلام أن محمود درويش شاعر عالمي لم يجد بمثله الزمن بعد.

نذر نفسه للشعر والحب والقضية العادلة. ترجمت أشعاره الى جميع لغات العالم، وهذا لم يسبقه اليه أي شاعر. كما ان صورته صارت أيقونة للقضية الفلسطينية العادلة وكاريزميته وأناقته الدائمة ساهمت في شهرته وعلو كعبه عن جدارة واستحقاق.  إضافه الى إتقانه فن الإلقاء مما استحاله واحدا من أكبر الشعراء شعبية في العالم العربي منذ ستينيات القرن العشرين الى العقد الثاني من الالفية الثالثة.

أليس هو القائل”أنا لست لي”  في اشارة الى انه نذر نفسه للآخرين ظل وفيا لحبه وظل بدون زواج وفشلت كل العشيقات في السيطرة عليه وكان مدركا ان الزواج كمؤسسة كان يمكن ان يدمر مشروعه الشعري وكان يصر ان يظل يكتب تحت قصف الطيران الإسرائيلي لمقر إقامته بيروت ولو كان معه أطفال لحملهم على كتفيه وهرب الى الشاع ولم يكتب قصيدة.

لم ينجب درويش أطفالا وظل ذلك الأب الحنون لكل التجارب الشعرية من خلال المجلات التي أدارها وعلى رأسها مجلة الكرمل التي أعاد نشرها بعد عودته الى بلدته الكرمل.

كان درويش متخوفا من الآتي من الغد. فقال في قصيدة جميلة”غدنا ليس لنا” في لحظة شعرية مليئة بالالم من مفترق الطرق الذي انتاب مشاعرنا وأحلامنا وأيديلوجياتنا المتهالكة بلا بديل.

لن نصدق يوما أن محمود درويش سيدخل “ذاكرة النسيان” أو يموت فينا إنه حي في قلوبنا وسيظل نبراس كلماتنا الى يوم الدين.

وفي ذكراه المتجددة نقول له أنك تركتنا يتامى الزمن العربي الرديئ وأملنا ان نزور قبرك يوما لنكتب قصيدة جديدة.

 

مواضيع مشابهة

تعليق

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button