أخبار

غَزَل “تحت الطاولة” في موريتانيا بين الرئيس والمعارضة

دأب السياسيون على حشو “عين الاعتبار” بكل مطلب يقدم لهم و”عين الاعتبار” مفردة تستحق الدراسة في القاموس السياسي الحديث، خاصة القاموس الموريتاني الذي تتدفق منه “عيون الاعتبار” وحتى شلالاته في كل حين لدرجة أن “عين الاعتبار” باتت مقصلة تعدم عليها الالتزامات. أخذت “عين الاعتبار” هذا الأسبوع منحى آخر بعد اللقاء المثير بين الرئيس محمد ولد عبدالعزيز ورئيس البرلمان مسعود ولد بلخير في القصر الرئاسي بنواكشوط وهو اللقاء الأول بين الرجلين منذ تفرقت سبلهما بعد الانقلاب العسكري الذي نفذه الأول (6/8/2008) وعارضه الثاني. ثم بعد تلك السنة العجفاء التي حمل فيها الموريتانيون “غسيلهم” للنشر في عواصم الشمال والجنوب.

في الانتخابات الرئاسية الماضية، حل ولد عبدالعزيز في المرتبة الأولى (53%) وحل ولد بلخير في المرتبة الثانية (17%) ليكون “فارق التوقيت الانتخابي” بين الرجلين مسألة جوهرية في حياتهما وفي حياة البلد.

كان الكره والعداء الشخصي قد بلغ أوجه بين الرجلين إبان الحملة الانتخابية الماضية، فولد عبدالعزيز اتهم مسعود ولد بلخير باختلاس مئات الملايين من ميزانية البرلمان، وأكد أن لديه أدلة دامغة، وبذلك سدد صفعة قوية لصورة ولد بلخير “المناضل” التاريخي الذي اكتوى بنار الأنظمة، “فإذا بتصريحات عزيز أمام أكبر مهرجان انتخابي تؤكد أن ولد بلخير أطفأ تلك النيران بملاعق عسل من ميزانية ممثلي الشعب”.

رد ولد بلخير، المعروف بسلاطة لسانه على الجنرال وقتها واصفاً إياه بأكبر سارق في تاريخ الدولة الموريتانية، متسائلاً “أين ضاعت ميزانية الحرس الرئاسي؟”.

وهدد وقتها أنصار ولد بلخير بنشر شريط مصور عن ممتلكات عزيز وبينها عقارات في العاصمة نواكشوط وكل ما قد يخطر على قلب معارض.

كان ولد بلخير قد أضحك النخبة سابقاً عندما اعتذر عن الرد بطريقته المعتادة كونه أصبح رئيساً للبرلمان وهذا المنصب يتطلب بعض الوقار وتحمل المسؤولية اللفظية.

وقبل ذلك تساءل ولد بلخير بعفوية تامة في مهرجان سياسي بانواذيبو عن السر في خوف الجيش الموريتاني من الجنرال عزيز “أليس شخصاً عادياً”.. عجيب خوفهم منه.. كل واحد يُنفذ عليه انقلاب.. (إلا هذا..).

أهم حلقة في رصد تجاذب العلاقة بين الرجلين كانت مرحلة إعلان نتائج الانتخابات، فولد بلخير شكل تحالفا مع ولد داداه لرفض تلك النتائج لكنه بعد أيام فقط منذ ذلك اشترط الاعتراف بالنتائج الصادرة عن المجلس الدستوري، وفسرت العبارة بشيء واحد قبول مسعود بالمؤسسات الدستورية ورفض لشرعية شخص ولد عبدالعزيز.

خطة ذكية صممها ناصريو موريتانيا المتمرسون في اللعبة السياسية، أم ميكيافيلية من الرجل للمحافظة على منصبه في رئاسة البرلمان؟ أم بداية لتفاهم قد يفضي إلى تحالف في ميدان لا يعرف الثوابت؟

أسئلة طرحت بحرارة في رحم الساحة السياسية لكن أي صراخ وليد لم يسمع بعد رغم تعدد القابلات.

بعد ذلك آثر ولد بلخير الصمت إلى حين افتتاح الدورة البرلمانية الحالية حين شهد خطابه تغيراً فجائياً، أكثر من مائة وسبعين درجة على الأقل، إذ أعلن أن الانتخابات الرئاسية الماضية “مكسب تجب صيانته”، ودعا إلى العمل المشترك بين السلطة المنتخبة والمعارضة لتأمين استقرار البلد وحل الملفات العالقة.

ثم تأتي المفاجأة بطلب ولد بلخير لقاء عزيز واستجابة الأخير الفورية لهذا اللقاء الذي استمر ساعتين من دون أن يعلن عنه في وسائل الإعلام الرسمية.

ثمة قراءات متعددة للاجتماع بين الرئيسين في هذه الظرفية بالذات، ربما نقلت جانبا منها تصريحات المقربين من ولد بلخير، حيث أكدوا أن رئيس البرلمان قدم نصائح للرئيس بضرورة تجاوز جراحات الحملة الانتخابية والانفتاح على المعارضة، ومراعاة ظروف البلد الذي يمر بأزمة سياسية وأخرى أمنية، وعدم إضافة أزمة اجتماعية أخرى في ظل قضية رجال الأعمال الموقوفين حالياً ونقاط أخرى عالقة في علاقة السلطة بالمعارضة.

ولا تعرف حتى الآن النتائج التي سيتمخض عن هذا اللقاء الذي يعتبر نقلة نوعية في علاقات المعارضة بالسلطة في العهد الجديد، خاصة أن ولد بلخير كان من المؤسسين الرئيسيين للجبهة المناوئة للانقلاب ويرأسها حالياً، كما أنه يتولى رئاسة البرلمان (ثاني شخصية في الدولة)، وأعطته نتائج الانتخابات الرئاسية كلمة أخرى مسموعة الصدى على الأقل في المحافل الدولية.

موقف ولد بولخير المفاجئ أعاد إلى المشهد السياسي الداخلي في موريتانيا نوعاً من التوازن في وقت يتوقع المراقبون تصعيداً في نبرة خطاب المعارضة.

بيد أن الرسالة التي حملها ولد بلخير قد تكون جاءت متأخرة على ما يبدو، وقد لا تجد صدى إيجابيا بعد أفعال وأقوال الرئيس محمد ولد عبدالعزيز المخالفة لجو التقارب الذي عبّر عنه ولد بلخير.. فقبل أسبوعين فقط رفض ولد عبدالعزيز صراحة أي نوع من الشراكة السياسية مع خصوم الأمس، كما بدا، وفق تعبير السياسي محمد ولد أحبلاله، عزيز فيما يشبه عملية انتقام سياسي بنكهة قبلية في محاسبة رجال أعمال كبار في البلد وقفوا ذات مرة ضده في الانتخابات الرئاسية ودعموا أبرز خصومه ومنافسيه أحمد ولد داداه.

رئيس البرلمان الموريتاني لم ييأس على ما يبدو من الحوار فاختار هذه المرة أن يأخذ زمام المبادرة ويطلب لقاء الرئيس على انفراد لبحث عدد من نقاطه التي كثيراً ما تتحول إلى فقرات أو مجلدات عندما توضع الأمور على المحك.

وضمن ما نقل عن رئيس البرلمان الموريتاني قوله أيضاً إن الرئيس تعهد النظر في مختلف تلك النقاط وأخذها ب”عين الاعتبار”، لكن ماذا بعد؟

لا يزال رجال الأعمال المتهمون في قضايا اختلاس أموال عمومية يقبعون خلف قضبان السجون للأسبوع الثاني، فيما يصعد ذووهم من الاحتجاج خارج أسوار المعتقل.

أقل ما يمكن أن يقال اليوم في هذه الأحداث أن حراكاً هادئاً يجري تحت الطاولة.. بين المعارضة والرئيس ولد عبدالعزيز وإن تظاهر الأخير بإصراره على تجنب الشراكة السياسية مع خصومه على اعتبار عدم وجود أي مسوغ لإشراكهم في تسيير المرحلة إلا أن المعارضة، أو جناح الجبهة على الأصح، ترى أنه ينبغي أن يظل حبل الود ممدوداً حتى وإن اختلفت الرؤى والتوجهات السياسية.

وتطمح المعارضة الموريتانية الآن إلى أن تضمن على الأقل إشراكها في النقاش والسماح لها بالإدلاء برأي في الأمور الحساسة في البلد وكذا منحها قدرة على إبراز مواقفها للرأي العام عبر توسيع هوامش الحرية المتاحة حالياً في وسائل الإعلام الحكومية ولكن المطلب الأخير والذي كثيراً ما نادت به المعارضة الموريتانية لن يكون سهل المنال إذ سبق للرئيس في لقائه بنقابة الصحافيين الموريتانيين أن رفض توسيع هامش الحرية لوسائل الإعلام العمومية وقالها بالحرف الواحد “وسائل الإعلام العمومية لن تقول إلا ما نريدها نحن أن تقوله” في إشارة إلى تأكيده على أنها لن تشرك مع نظامه أحداً.

إلا أن كل هذه الأمور لا تمنع وجود حوار صامت أو مونولوج وفق التعبيرات السينمائية والمسرحية بحيث لا تكون اللقاءات علنية ولا تنشر في وسائل الإعلام ولكن يسمح بمزيد من الأخذ والرد من تحت الطاولة، وهو أسلوب ليس بالجديد في موريتانيا حيث درجت عليه معظم المكونات السياسية في البلد منذ الاستقلال إلى اليوم، وسبق أن حدث بين حكومة الرئيس الراحل المختار ولد داداه و”حركة الكادحين” في ظل “التأميم”، كما سمحت لقاءات تحت الطاولة بين الجيش الموريتاني والقوى السياسية بتهيئة الأرضية لأول انقلاب عسكري في البلاد (يوليو 78) تحت ظل “إنهاء الحرب”، كما تميزت فترة حكم ولد الطائع بحالات من هذا النوع من الحوار خصوصاً في أوج الصدام السياسي بين الموالاة والمعارضة، وسماها اليسار الموريتاني وقتها “المساومة الوطنية” في ظل “ثورة الخبز”، أما في عهد الرئيس ولد الشيخ عبدالله فقد جرى الحوار من تحت الطاولة في ظل “ثورة الجياع” الدامية.. أما في العهد الحالي فما أكثر “الظلال”.

شيء من هذا القبيل يستبعد أن يحقق نتائج ملموسة في المرحلة الراهنة، حسب رأي قيادي مقرب من ولد داداه، قال “إن المعارضة تضيع الوقت بالسعي لمد حبل الود مع جنرال لم يتحمل شعرة وصل”.

واعتبر أن الجنرال ليس مؤهلاً حالياً لنقل خبرته في الدبابات إلى مجال “الطاولات” مع من يسميهم قلة من المستشارين السيئين الذين يسعون لاحتكار الرئيس وعزله في القوقعة الرئاسية بعيداً عن التفاعلات المحيطة.

الثورة تأكل أبناءها

حاولت المعارضة الموريتانية ووسائل إعلامها وحتى أمريكا إبان الانقلاب إحداث الوقيعة بين الجنرال عزيز ورفاقه من ضباط الجيش الذين نفذوا معه انقلابين (2005 و2008)، بل إن أمريكا شجعت الجنرال محمد ولد الغزواني قائد أركان الجيش على الانقلاب على صديقه عندما استثنته من لائحة عقوباته في ذلك الوقت.

وتردد مرات عدة أن مسيرة تحالف الجنرالين أشرفت على النهاية، وأن الثقة بين الجنرال وجنرالاته تحولت إلى الأرشيف.

وهذا الأسبوع ظهر التساؤل حول ما إذا كانت تلك السياسة بدأت تؤتي أكلها مع إقدام ولد عبدالعزيز على إقالة الجنرال أحمد ولد بكرن، قائد أركان الدرك الوطني، والعضو في المجلسين العسكريين الحاكمين سابقاً.

فالرجل يعتبر من أنزه ضباط الجيش وأنظفهم يداً واحتراماً من قبل الضباط والجنود وحتى المؤسسة الاجتماعية التي تكنّ له اعتباراً كبيراً.

وإذا كانت قد تمت التضحية به على خلفية اختطاف الرهائن الإسبان، فإن صعود العقيدين جاغا جينغ وعبدالله ولد أحمد عيشه، قد فسرت بأنها بداية للتخلص من الجنرالات الذين يملكون تراثاً مهماً في الانقلابات العسكرية خاصة بعد أن تلوث هؤلاء الجنرالات بالسياسة والمال والنفوذ وأصبحت كل الأحلام مشرعة أمامهم، ربما، وربما أيضاً لأنهم يصلحون كبديل “عند الضرورة”.

ذلك بأن المحللين يجمعون على أن نجاح عملية اختطاف الرهائن الإسبان في غربي البلاد هي وليدة سياسة أمنية غير سليمة بل حتى إمكانات لوجسيتية وفنية غير متوفرة للتعامل مع مثل هذه القضايا.

وعلى هذا الأساس تكون إقالة الجنرال ولد بكرن، ضمن احتمالين: إما أنها إقالة استعراضية من “داخل البيت” لتبرير الواقع، أو أن أسنان الثورة نبتت وبدأت الأكل.

بيد أن محللاً سياسياً آخر هو البشير ولد ببانه يلفت الانتباه إلى عامل مهم وهو توجه ولد عبدالعزيز في السيطرة على الجيش إلى الاعتماد على ضباط من الأقلية الإفريقية، فبعد إسناد قيادة أركان الحرس الرئاسي، أهم فصائل الجيش، للعقيد اديا أدما عمار، وإسناد قيادة أركان الحرس الوطني للجنرال “أفيلكس نكري”، جاء إسناد قيادة الدرك للعقيد جاغا جينغ، لتكون بذلك ثلاث من أربع قيادات في الجيش تحت أمرة ضباط أفارقة هم على الأرجح آخر من يفكر في انقلاب عسكري في هذه الظرفية. وفي ذلك تفصيل جديد للحلة “السوسيو عسكرية” في البلاد.

وقد حظي هذا الجانب باهتمام كبير في كل الأوساط السياسية، وحتى في أوساط العامة، ربما لأن “حركة” العسكر سريعة التأثير في العامل السياسي والاجتماعي، وربما لأن “سعدنا” يصاب بالانتفاخ إذا أكل “سعيد” الصمغ. حسب مضمون مثل شعبي موريتاني.

– المختارالسالم

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button