أخبار

ملامح نظام قوي في موريتانيا / صحيفة الخليج / الإمارات

طوت موريتانيا صفحة أزمة الشرعية الدستورية بانتخاب الجنرال محمد ولد عبدالعزيز رئيسا للجمهورية بعد عام على الانقلاب الذي أطاح فيه ولد عبدالعزيز بأول رئيس منتخب.

وإذا كانت “مخلفات” الأزمة ستبقى لفترة طويلة فإن “الخليج” التي تابعت الأزمة الموريتانية منذ ظهور بوادرها قبل الانقلاب وحتى اليوم، تأكدت وفق معطيات ميدانية أن المعركة السياسية الماضية انتهت بشكلها الماضوي، وأن ما يطفو الآن ليس سوى الغبار الناتج عن تلك المعركة حامية الوطيس، لكن ذلك الغبار لا يخفي مقاتلين ولا أسلحة تشكل خطرا على الجو العام، في الوقت الذي تتجه فيه البلاد إلى مرحلة جديدة تماما من تاريخها السياسي والتنموي.

لا تعني نتائج الانتخابات في موريتانيا أن الدرب السياسي الموريتاني أصبح مفروشا ب “الورود”، فالمعارضة الموريتانية التي بدأت هذا الأسبوع مراجعة حساباتها وإعادة تشكيلها وتموقعها، ستبقى معارضة قوية وحاضرة في المشهد الميداني للحياة في موريتانيا، إلا أن هذا الحضور لن يتخذ بحسب التوقعات شكل “تعطيل” مؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية كما حدث طيلة السنة الماضية.

حسم ولد عبدالعزيز الانتخابات من الشوط الأول (18/7/2009) في معركة لا تقل إثارة ومفاجأة عن زوابع الصحراء، وحقق الرجل مفاجأة أخرى من الوزن الثقيل، وهو الذي ولد من رحم المفاجآت.

أما الانطباع السائد فهو أن موريتانيا بعد عقود من عدم الاستقرار السياسي والتذبذب الخطير نحو هذه الهاوية أو تلك ستسير من الآن فصاعداً من طرف نظام قوي إن لم يكن أقوى الأنظمة التي عرفتها البلاد.

إذ أصبح الجنرال عزيز أول رئيس لموريتانيا يجمع بين قوة “الشرعية الانتخابية”، و”شرعية الواقع” من ناحيتي السيطرة على المؤسسة العسكرية والأمنية، والتمتع بشعبية كبيرة في الشارع الموريتاني المتعطش لرجل تتوفر فيه صفات رجل الدولة.

ويقول أمين محمد، المحلل السياسي، إن الرئيس الموريتاني المنتخب رئيس قوي بمعايير توفره على الشرعية الانتخابية وإن كانت فيها طعون إلا أنها لا ترقى للتأثير على المدى البعيد، كما أن لديه شرعية إنجاز على أرض الواقع تتمثل في قدر من الإنجازات التي حققها في عشرة أشهر من حكمه الماضي وهي الانجازات التي لم يحققها أي نظام في مثل هذه الفترة القصيرة.

ويضيف: أن نقطة القوة الأخرى هي دخول ولد عبدالعزيز إلى الرئاسة من دون الخضوع لالتزامات أو اشتراطات مسبقة من أطراف سياسية داخلية خلال العملية الانتخابية الماضية، حتى أنه لم يقدم أي التزام للأغلبية الموالية له، وذلك عكس الرئيس المنتخب السابق ولد الشيخ عبدالله الذي تم تقييده بالتزامات لقوى سياسية في الشوط الأول والشوط الثاني من رئاسيات 2007 وهي الالتزامات التي عصفت بنظامه أو ساهمت في العصف به على الأقل.

ويقول الناشط السياسي محمد ولد أحبلاله إن قراءة للمشهد الانتخابي إبان الانتخابات الماضية لا يمكن لأي قبيلة أو حزب سياسي معين أو جهوية ما أن تمن على عزيز بأنها وحدها من أهداه الفوز في الانتخابات كما كان الحال مع الرئيسين ولد الشيخ عبدالله وقبله ولد الطايع.

ومن هنا فقد سقطت عن عزيز كل “التابوهات” الانتخابية التي عانى منها أسلافه في الحكم، الأمر الذي يسمح له بإقامة توازن منصف “إذا أراد” بين حساسيات وقوى المجتمع السياسي في البلد.

فعلى المستوى الداخلي تتعدد أوراق القوة بالنسبة لعزيز، ففيما يخص المجال العسكري لا يماري أحد في الولاء شبه المطلق من المؤسسة العسكرية للرجل الذي عاش بين صفوفها ميدانيا 32 سنة وخبرها عن قرب أكثر من أي رئيس آخر.

اهتمام بالجيش

ومن ضمن المبررات التي ساقها الجنرال عزيز في انقلاب السادس من أغسطس/آب 2008 الوضعية المزرية للجيش ماديا ومعنويا، ما عني أن الجنرال لامس بخطابه وترا حساسا لدى آلاف الجنود ومئات الضباط الذين كانوا يعانون من إهمال الأنظمة السابقة للواقع الداخلي المزري للقواعد العسكرية وأطقمها البشرية.

ويؤكد مقربون من قادة الجيش أنه الآن يوجد على طاولة عزيز تصور واضح وواقعي لتحديث الجيش وتكوينه ورفع طاقته البشرية والمادية، يساعده في ذلك الدور الإقليمي الجديد للجيش الموريتاني المطلوب في محاربة الإرهاب والهجرة السرية في الساحل العربي الإفريقي الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى “بوابة مقلقة” للجارة الأوروبية.

وإذا كان عزيز قد نجح في اختطاف خطاب المعارضة التقليدية حتى بات يلقب ب “رئيس الفقراء” فإن الألم والحرقة التي أظهرها الرجل من واقع أحزمة الفقر في بلده أكسبته شعبية كبيرة في صفوف المهمشين وآلاف الفقراء المنسيين في الداخل وفي أحزمة الصفيح. وهذه القوة الشعبية هي التي شكلت ظهيرا في الشارع لعزيز وسندا انتخابيا شكل مفاجأة فوزه بهذه النسبة الكبيرة في الشوط الأول من الانتخابات.

وفي التعاطي المباشر مع هموم الشارع الموريتاني فإن حساسية عزيز المفرطة إزاء موضوع الأسعار، وقربه من نبض الشارع فيما يتعلق بمعاناة المواطنين البسطاء مع الصحة والسكن والمياه والكهرباء، قد تكون نقطة حاسمة في استمرار زخمه الشعبي الحالي، إذا ما واصل نفس المنهج السابق في التعاطي مع هذا الملف.

كما أن الحرب التي أعلنها عزيز على الفساد الذي نخر جسم الدولة وجعل اقتصادها بهذا السوء طوال العقود الماضية، حرب لا يبدو أنها ستتوقف عند التسويق الخطابي بعد تأكيد الرئيس المنتخب في أول تصريح له بعد فوزه عزمه على محاربة الفساد.

وكان عزيز أول رئيس للبلاد يتجرأ على وضع من يسميهم ب “المفسدين” ومن بينهم موالون له خلف القضبان.

ولم يتهيب عزيز خطورة “مافيا” الفساد، ولا الوسط الاجتماعي الموريتاني الذي يوفر حاضنة طبيعية للمفسدين في تقليد متوارث من محاربة الموريتانيين لحكومات المستعمر.

وإذا تمكن الرجل عبر الحرب على الفساد من إبعاد أو التقليل من خطر هذه الآفة فإن الخبراء الاقتصاديين الموريتانيين يؤكدون أن أكثر من 75% من مداخيل البلاد كانت تذهب جراء الفساد. ما يعني أن جزءاً مهماً من هذه الأموال سيعود على المشاريع التنموية ليخرجها من حالتها “الفاتوراتية” أو الورقية التي كانت تشرع نهب تلك الأموال.

يساعد عزيز في هذا الجانب خبرته الشخصية وكم المعلومات الهائل لديه عن هذا المجال، والذي كشف فيه مثلا خلال الحملة الانتخابية الماضية عن نهب 15 مليار أوقية من البنك المركزي الموريتانية 2001-2004 سحبت على أساس “عامل القرابة” من جهة أسرية واحدة، ما يتيح لنا تصور حجم الموارد التي يخسرها الشعب الموريتاني كل سنة.

كما كان الجنرال أول رئيس موريتاني يضع حسابات شركة الحديد والمناجم “أسنيم”، كبرى شركات الدولة تحت رقابته، بينما كانت هذه الحسابات لأكثر من 20 سنة سرا من أسرار إدارة الشركة وزبائنها عبر حسابات في الخارج.

وينطبق نفس الشيء تقريبا على قطاعات المعادن والصيد والنفط، وهو القطاع المتنامي الأعمال في البلاد.

وقد دلت المراجعات التي قام بها عزيز في الأشهر الماضية مع الشركات الأجنبية على انتهاجه أسلوباً جديداً في التعامل مع المستثمرين يتمثل في التسويات الودية ومنح المستثمر إغراءات استغلال أخرى مع كشف الأرقام للجمهور الموريتاني.

الديمقراطية وسيلة الحكم

على المستوى السياسي، وهنا مربط آخر للفرس، فإن الطبقة السياسية الموريتانية بمختلف توجهاتها وتناقض مواقفها من عزيز، تعترف بأن الرجل هو الذي أطاح بنظام ولد الطايع وفرض وقتها التجربة الديمقراطية في المرحلة الانتقالية الماضية (2005-2007)، كما أفشل مخطط ابن عمه ولد فال للبقاء في السلطة سنة 2007 عبر “خطاب البطاقة البيضاء” المشهور.

ومن حسنات عزيز صراحته، فقد اعترف علنا بوقوفه وراء نجاح ولد الشيخ عبدالله في رئاسيات ،2007 وأكد أن سبب تدخله مرة أخرى هو ارتماء الشيخ عبدالله في أحضان مافيا الفساد والتخطيط لحكم فردي عبر عرقلة عمل المؤسسات الدستورية.

وأعلن عزيز إبان الانقلاب وبعد الانتخاب أنه يؤمن بأن “الديمقراطية هي الوسيلة الوحيدة للحكم”، ويؤكد أنصاره أن الرجل سيفي بوعده الذي قطعه على نفسه بأن تكون ولايته “فترة ازدهار حريات وديمقراطية تنموية حقيقية” مستشهدين بأنه من جاء بهذه الديمقراطية أصلا في انقلاب الثالث من أغسطس/آب 2005 الذي أبعد الديكتاتور ولد الطايع عن الحكم.

وبالفعل فإن ذلك تحد حقيقي للرئيس المنتخب الذي سيواجه معارضة قوية وذكية ولها إمكانيات ويتطلب التعامل معها الصبر والتغاضي، ويستدعي التعاطي مع استفزازاتها التمتع بأعصاب من حديد.

وإذا أفلح ولد عبدالعزيز في جر بعض فصائل المعارضة إلى المشاركة في الحكم، أو في مهادنتها فإنه سيكون حقق “انتصاراً” سياسياً لا يقل أهمية من الناحية الاستراتيجية عن الانتصار الانتخابي.

كما أن ولد عبدالعزيز الآن يجد نفسه على المستوى الخارجي وقد بدأ الجميع يخطب وده بالنظر إلى موقع موريتانيا الاستراتيجي و”ألق تجربتها الديمقراطية” ودورها في ملفات الهجرة السرية والمخدرات والإرهاب.

ففي موريتانيا، رغم دور العسكر، يضطر قائد انقلاب عسكري لتبرير انقلابه بتصحيح التجربة الديمقراطية، وبعد عشرة أشهر إلى توقيع اتفاق وفق صيغة “لا غالب ولا مغلوب” مع المعارضة.

ويحدث ذلك لأول مرة في المنطقة، ما يعني أن التجربة الديمقراطية الموريتانية حققت بعض المكاسب، لكنه يعني من ناحية أخرى توفر إرادة “التنازل” لدى الرئيس الجديد وهي صفة كانت تعتبر مذمة لدى الرؤساء السابقين، والذين أدى عدم تنازلهم في بعض المواقف إلى كوارث سياسية واقتصادية.

وكان ولد عبدالعزيز في أوج العزلة والحصار الدولي على نظامه السابق قد انضم إلى معسكر “الممانعة” غير عابئ بأي ضغوط، ومن خلال ذلك سجل نقاط القوة التالية:

أولا: الاستجابة لطلب إجماعي من كل الموريتانيين بقطع العلاقات مع الكيان الصهيوني والتي عجز ثلاثة رؤساء عن المساس بها واعتبرها بعضهم “خطا أحمر”. ما رفع بشكل غير مسبوق من شعبيته الداخلية.

ثانيا: الحصول على التزامات بالتمويل والاستثمار من محور الممانعة والذي كان بالفعل غائبا عن أي دعم للاقتصاد الموريتاني.

علاقات ممتازة مع “المعتدلين”

ومع ذلك استطاع ولد عبدالعزيز الاحتفاظ بعلاقات ممتازة مع “دول الاعتدال”، بل إن الاتصالات التي أعقبت فوزه بالانتخابات أعطت الانطباع بأن الرئيس قادر على العمل مع الطرفين وفق شعار لا يخفيه “إيمان بالعمل العربي المشترك واحترام للخصوصيات”.

وكانت الدول العربية رفضت الضغوط الأمريكية بعد الانقلاب والتي سعت لقطع التمويلات العربية عن الاقتصاد الموريتاني وهي التمويلات التي تمثل 85% من القروض والهبات التي تحصل عليها موريتانيا، وخاصة في المشاريع ذات الطابع الاجتماعي كمشاريع الكهرباء والمياه والطرق، بل إن المؤسسات العربية المالية أشعرت “المسؤولين الفنيين” الموريتانيين باستعدادها لمضاعفة تلك التمويلات لصالح الشعب الموريتاني.

وبينما كان الاتحاد الأوروبي، رغم إجراءاته الظاهرية، قد حسم اختياره لصالح ولد عبدالعزيز بعد السياسات الصارمة لهذا الأخير في ملفات الإرهاب والهجرة السرية والمخدرات، وكذلك المقاربة التي قدمها الجنرال عزيز في مجال التعاون الإقليمي حول تلك القضايا، فإن أمريكا التي عارضت بقوة انقلاب الجنرال عزيز وسعت لعدم فوزه في الانتخابات بدعم مناوئيه، لم تلوح حتى الآن للرئيس المنتخب بجزرة التعاون، وإن كان بعض المحللين يعتبر ذلك في إطار عدم إحراج المعارضة التي تحالفت معها في الفترة الماضية.

لكن مراقبين آخرين يرون أن التعاون العسكري الأمريكي الموريتاني الذي توقف بعد الإطاحة بولد الشيخ عبدالله أمر حاسم في مستقبل علاقة البلدين وهو ما يرجح أن يتم بحثه بعيدا عن الأضواء في الأشهر القليلة المقبلة.

وفيما يخص دول الجوار يبدو الجنرال مرتاحا، فلديه الآن علاقات مميزة مع قادة الدول المغاربية الأخرى الأربعة وهو شيء لم يسبق لأي رئيس موريتاني أن تمتع به.

كما أن العواصم الإفريقية المجاورة رأت في مسعى الجنرال لتسوية الملف الإنساني المتعلق بأفارقة موريتانيا “مبادرة شجاعة”، والخطوة التي أعقبتها بالدفع برئيس مجلس الشيوخ الذي ينتمي للأقلية الإفريقية إلى رئاسة البلاد للفترة الانتقالية الحالية، وخطوات أخرى ربما كانت وراء كل الحماس السنغالي للمصالحة الموريتانية التي أبرمت في اتفاق دكار في الرابع من يونيو/حزيران الماضي.

وسبق ذلك تسوية بعض الملفات العالقة مع السنغال، كمشكل الصيادين التقليديين السنغاليين في المياه الإقليمية الموريتانية ومنح السنغال اتفاقية مريحة للصيد. كما نفضت موريتانيا يدها من ملف الحركات العربية البربرية المتمردة في إقليم “أزواد” بجمهورية مالي المجاورة.

كل ذلك وغيره يؤهل الرئيس الموريتاني المنتخب محمد ولد عبدالعزيز للتمتع بعلاقات إقليمية ودولية متميزة هي في حد ذاتها “الحبل السري” للاقتصاد الموريتاني المعتمد على التمويلات الخارجية.

فهل يحسن الجنرال عزيز استخدام أوراق قوته السابقة والجديدة، ويحقق بالفعل قفزة تنموية، واستقرارا طالما بحث عنه سكان “بلاد المليون شاعر”؟ ذلك ما تصبو إليه الأغلبية الساحقة من المواطنين الموريتانيين الذين ملوا دوامة الانقلابات والانتخابات.

– المختار السالم – صحيفة الخليج (الإماراتية)

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button