مقالات

وهانحن بعد ثلاثين قرنا كما نحن لم يتعلم أحد!

في عام 1953 نشر الكاتب الأمريكي راي برادبيري روايته (451 فهرنهايت) التي ستغدو واحدة من أشهر الكتب التي أطلت على المستقبل، بعمق شديد وبصيرة استثنائية في قدرتها على رسم حاضرنا، اليوم، بطريقة فنية فذة.

ونستطيع القول إن برادبيري، الذي كتب هذه الرواية التي تستمد اسمها من درجة الحرارة التي تبدأ فيها الكتب بالاحتراق، واحد من أفضل الكتّاب الذين خطّوا أسلوباً فريداً، وأوجدوا حساسيات ومعالجات لامعة في الأدب، استطاعوا من خلالها سبر أغوار الإنسان وكوكبه الصغير هذا، وكذلك سبر أعالي مستقبل مصيرنا البشري الذي سنكون فيه مضطرين للرحيل إلى كواكب أخرى.

من يقرأ قصص برادبيري، أو من يتاح له رؤية الأفلام المأخوذة عنها، لن يكون صعباً عليه أن يدرك حجم التميز وقوة العبقرية لكاتب له مذاقه الخاص.

لا تسعى هذه الكتابة إلى أن تكون قراءة في أعماله، بل هي محاولة للإشارة إلى عدد من القضايا الكبرى التي طرحها برادبيري قبل حوالي سبعين عاماً، وباتت تشكل اليوم المظهر الأكثر تأثيراً في حياتنا المعاصرة. حتى أن المرء يحس أحياناً أن برادبيري كان هنا، في زماننا هذا، حين كتب (451 فهرنهايت) التي تحولت إلى فيلم شهير أيضاً قبل عقود.

سياسياً، يدهشك أن هذا الكاتب، يتحدث في عام 1953 عن السؤال الأكثر شهرة في مسار السياسة الأمريكية، ذلك السؤال الذي طرحه ذات يوم جورج بوش، ولم تزل أصداؤه تتكرر، ونعني به: لماذا يكرهوننا؟!
في ذلك الزمان يكتب برادبيري في روايته هذه: (دوّى صوت طائرات نفاثة تعبر السماء الممطرة فوق البيت.. فقال مونتاج: إنني أتساءل كيف يمرّ هؤلاء الطيارون في السماء كل ثانية من حياتنا.. ألأننا أثرياء والعالم فقير؟ ألأننا نموت من التخمة بينما شعوب العالم الأخرى تتضور جوعاً؟ أترى هذا هو السبب الذي يكرهوننا من أجله إلى هذا الحد؟)

وتتجاوز الرواية هذا المدار السياسي، ذاهبة نحو مدى أثر الإعلام في تسطيح البشر وتفريغهم، وهو ما أشار إليه المخرج الكبير أوليفر ستون، بعد ظهور فيلمه (قتلة بالفطرة): ما يريده الجمهور نهاية سعيدة إذن، حتى للقتلة، لهذا النوع المجنون من القتلة، لأنه لا يريد سوى (العَلَف) والعلف هنا موجود بوفرة، ففي السابع عشر من شباط 1994 بثّت محطات التلفزيون الأمريكية خمسة وأربعين برنامجًا حول جرائم القتل، وقدّمت في هذه البرامج العديد من المقابلات مع القتلة، هذه المقابلات التي يُقبل على مشاهدتها الجمهور بأعداد كبيرة!
يكتب برادبيري عن وقائع ثقافة التسطيح التي بات العالم أسيراً لها، والتي وجدت مداها الأرحب في الإنتاج التلفزيوني الأمريكي، وما لبثت أن امتدت كالنار في الهشيم، لتصبح ظاهرة عالمية، بإقدام المحطات، في العالم الثالث وسواه، وفي عالمنا العربي بشكل خاص، على إعادة إنتاجها في نسخ مماثلة، بعد توطينها لغة وضحايا! بحيث تحولت هذه البرامج إلى البرامج الأكثر مشاهدة والأكثر أرباحاً والأكثر إدراراً لدموع أبناء الفضائيات. لقد أدرك برادبيري ببصيرته في ذلك الزمان سرّ لعبة تحالف السلطة والمال، فهو يكتب: (اجعل الناس يعيشون في سلام.. أعطهم مسابقات يربحون فيها إذا تذكروا أسماء الأغاني المشهورة أو أسماء عواصم الولايات، … حاول أن تحشوهم بالحقائق سريعة الاحتراق حتى يشعروا بأنهم أذكياء.. حتى يشعروا بأنهم يفكرون.. هكذا يشعرون بالحركة بدون أن يتحركوا..).

لا تتوقف رواية (451 فهرنهايت) عند هذا الحدّ من الاستشراف، فهي تتحدث عن نمط آخر من أبشع البرامج التي تم إنتاجها حتى اليوم، ونعني هنا تلفزيون الواقع، الذي دمر الخصوصية البشرية وأحال البشر إلى سلع رخيصة.. إلى أدوات للفرجة منتهَكين في أدق خصوصياتهم؛ ففي الرواية، يتابع الناس على أجهزة تلفزيون الحائط، هكذا يصفها، عملية هروب مونتاج بطل الرواية ومطاردة البوليس له لحظة بلحظة، حيث يعلن التلفزيون يسرنا الليلة أن نقدم لكم مطاردة (مونتاج) في السهرة عبر الكاميرات التلفزيونية… وبصعوبة اقتنع مونتاج أن هذا ليس مسلسلاً مثيراً لكنها حياته نفسها.. وصرخ ليرغم نفسه على الجري (الهرب).

فكرة الحياة ـ المسلسل، برع في تقديمها أيضا المخرج بيتر واير في فيلمه الشهير (ترومان شو) الذي قام ببطولته جيم كاري، وهو واحد من ألمع الأفلام التي قدمتها السينما الأمريكية، وقد شغل الفيلم عند ظهوره، لا النقاد السينمائيين فقط، بل عددا من أبرز الفلاسفة، وبذرة الفيلم كامنة في تلك الثمرة التي طرحتها شجرة 451 فهرنهايت، بصورة واضحة لا تقبل الشك. 

وما دمنا نتحدث عن أثر هذه الرواية في الأفلام، يمكننا أن نستدعي فيلم (كتاب إيلي) الذي قام ببطولته دينزل واشنطن، واستند في فكرته المركزية إلى قضية الحفاظ على الكتب، وحماية الكتاب الأخير، وتلك الفكرة يجسدها برادبيري في جمل واضحة في روايته: (في زمن حرق الكتب، لا يجد الناس وسيلة للحفاظ عليها أفضل من أن يحفظوها؛ ولذا، هذا يصبح اسمه سويفت/ مؤلف رحلات جوليفر، وذك يصبح اسمه داروين أو غاندي، أو بوذا، أو كونفوشيوس، ولو مات هاريس، ستصبح أنتَ، مونتاج، نسختنا من العهد القديم).

رواية استثنائية، تملك من البصرية ما لا تملكه عشرات الروايات وعشرات العلماء في زمن كتابتها، أطلقت الصرخة الأكثر ارتفاعاً، والتحذير الأكثر وضوحاً، لكن، يبدو أن العالم مصرٌّ بعناد لا مثيل له على مواصلة الرقص في ساحة المذبحة!

وبعد:

وصايا على خَشَباتِ المسارحِ، في الاحتفالاتِ، في الدّعواتِ، وفي الصلواتِ، وفي ما نرى من دَمٍ فوقَ أعتابِنا، ووصايا السّماءِ، وصايا الكِتابِ يزاحمُ في القلبِ ما في الكِتابِ! 
وصايا العُبورِ وصايا الأبدْ

وصايا لغاندي وأخرى للينين، غوته، وجبران، أُخرى لموزارتَ، أُخرى لزوربا 
وها نحن بعد ثلاثينَ قَرْناً كما نحن لم يتعلم أحد !.

– ابرهيم نصرالله – القدس العربي

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button